كملة العدد

 

عيد الأضحى يُذَكِّرُنا كلَّ عام بدرس التضحية والفداء

 

 

 

  

 

  

 

 

 


        ككُلِّ عام طَلَعَ علينا شهرُ الله الفضيل: شهرُ ذي الحجة الذي فيه يُؤَدَّى الحجُّ : أحدُ الأركان الأربعة في الإسلام ، والذي أيّامُه العشرة الأولى أفضل الأيّام في السنّة ؛ فقد روى ابنُ عبّاس – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله – – : «ما من أيّامٍ العملُ الصّالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيّام». يعني أيام العشر . قالوا : يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيل الله؟. قال : «ولا الجهادُ في سبيل الله ، إلاّ رجل خَرَجَ بنفسه وماله ، فلم يرجع من ذلك بشيء» (رواه البخاريُّ، 2/381، 383 ؛ وأخرجه أبو داؤد (2438) والترمذي (757) .

        وهي الأيام التي بلغت من فضلها أنه أقسم بها الله تعالى ؛ إذ قال: «وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ» (الفجر/1)

        وهي الأيّام التي في الثلاثة الأولى منها يتمّ النحر والتضحية بالأضاحي أسوةً بأبينا إبراهيم – عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ – والنحر أو الذبح في هذه الأيّام أحبّ إلى الله تعالى من كل عبادة فيها؛ فقد روتْ عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله – – قال : «ما عَمِلَ آدميٌّ من عمل يومَ النحر أحبّ إلى الله من إهراق الدم ، وإنّه لتأتي يومَ القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإنّ الدمَ ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض ؛ فطيبوا بها نفسًا» (رواه ابن ماجة والترمذي . وقال: حسن غريب ؛ والحاكم وصَحَّحه) .

        فهذا الشهرُ بالمجموع ، وهذه الأيامُ العشرةُ بالذات ، لها مكانة كبيرة عند الله تعالى ، الذي خلق الأيامَ واللياليَ والشهورَ والسنواتِ ، ففَضَّلَ بعضَها على بعض لحكمة يعلمها ولمصلحة قدَّرها.

        وهي الأيّامُ التي يتمّ فيها تذكيرُ المؤمن من خلال الأضاحي التي ينحرها أو يذبحها بأنّ حياتَه كلَّها تضحية وفداء ، وامتحان وابتلاء ، ليُمَحِّصه خالصًا ، ويُمَيِّزه عن غيره على مرأى ومسمع من الناس أجمعين ، أنّه عبدُه المُطَّرِحُ على عتبته ، المستجيب لأوامره ونواهيه ، المُلبّي لأحكامه كلّها في كل من السَرَّاء والضَرَّاء ، والشدّة والرخاء. قال تعالى:

        «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرٰتِ» (البقرة/155) ؛ فالمؤمن دائمًا موضعُ اختبار وتمحيص وتمييز ، يرفع الله به درجاته ، ويُكَفِّر سيئاته ، ويجعله من أخصّ عباده ، ويشمله برحمته ومغفرته ورضوانه .

        فامتحانُه ، وتكليفهُ بتقديم الضحيات ليس لإيقاعه في المشقّة ، وإنما هو رحمة به من الله تعالى ، وعطف عليه منه ، ومنّة عليه كبيرة .

        والتضحييةُ أنواعٌ وأشكالٌ أشار إليها الله عزّ وجلّ . ومن حكمة الله تعالى أنّه جَعَلَ بعضَ العبادات التي فَرَضَهَا على عباده تمرينًا لهم على تحمّل الابتلاءات والصبر على الامتحانات والتكيُّف معها في صورها المُتَعَدِّدة وأشكالها المختلفة ؛ فهم عندما يُبْتَلَوْن لاينزعجون ولا يَفْزَعون ولا يَعُدُّون ذلك عذابًا وتعنيتًا وإنما يحسبونه تصرُّفًا إلهيًّا وتدبيرًا ربَّانيًّا لزيادتهم أجرًا وارتفاعًا روحانيًّا . أما الكافرون والمشركون فهم عندما يُوَاقَعون بأمثال ذلك ، فإنّما يكون ذلك عقابًا وعذابًا ؛ لأنهم بكفرهم بالله فقدوا كلَّ أمل ورجاء في الله ، ولم يعودوا موضعَ الرحمة الإلهيّة واللفتة الربّانيّة ؛ فكلُّ ما يُصْنَع معهم من هذا القبيل إنما يكون مؤاخذةً وعقابًا من الله دونَ العذاب الأكبر .

*  *  *

        ومناسبةُ عيد الأضحى أجلى المناسبات المُخَصَّصَة من الله العليم الحكيم لترويض المؤمنين لتَحَمُّل كلّ تضحية حتى بالنفس ، تهون دونَها كلُّ تضحية بالمال وبغيره ؛ لأنّها أثقلُ التضحيات على النفس البشريّة . إن التضحيةَ بالحَيَوَانات : الأضاحي ، لهي في الواقع عِوَضٌ عن التضحية بفلذة الكبد : الوَلَد ، الذي ضَحَّى به أبونا إبراهيمُ – عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ – فتقبَّلها – التضحية – اللهُ قبولاً حسنًا ، وبَعَثَ جبريلَ بكبش من الجنة يقوم مقامَ إسماعيل الذبيح ، فقال – جبريل – له : اِذْبَحْ هذا ولا تَذْبَحْ إِسماعيلَ ؛ فقد عَلِمَ الله نيتَك الخالصةَ وإخلاصَك في العبادة، وكان يريد فقط هذا وما كان يريد أن تذبح ابنك الحبيبَ .

        إنّ المؤمنَ يتذكّر كلَّ عام بهذه المناسبة العظيمة أنّه كان مُطَالَبًا – أصلاً – بالتضحية بالنفس : بنفسه هو أو بأحد من أولاده . والتضحيةُ بالأولاد قد تكون أشقَّ على المرأ من التضحية بنفسه ؛ فالأولادُ قد تكون – ولاسيّما إذا كانت ذات برّ ودلال وجمال – أحبَّ إلى المرأ من نفسه هو . وهذا التذكُّر يستمرُّ معه ويَتَّصِل حسب قوةِ الإيمان ؛ وفعل الإخلاص ؛ وتأثير الشعور بالمسؤوليّة نحو دينه وعقيدته وربّه ونحو نفسه ونحو كلّ شيء في الحياة ؛ واحترامِه لنفسه؛ فإن عَزَمَتْ – نفسُه – على شيء يحترم عَزْمَها حسبَ احترامه لها ، فلا يخالف العزمَ إن كان يحترمها وإرادتَها حقَّ الاحترام ؛ حتى يأتي العام الجديد ؛ فيزداد تذكُّرًا ، ويزداد إيمانًا بأنّه ليسَ مُطْلَقَ العِنَان في هذه الحياة الدنيا التي هي مَزْرَعَة الآخرة ، وإنما هو مُقَيَّد من ربّه الخالق بما يُوَجِّه مسارَه في الحياة ويُحدِّد مسلكَه في التصرّف ومنحاه في العمل ، وهو مُدْعُوٌّ للالتزام بهذا المسار والتقيّد بهذا المسلك والتبنّى لهذا المنحى . وهذا التقيدُ والالتزام ليس لإثقال كاهله وتعنيته ، وإنّما هو لخيره وصلاحه في هذه الدنيا والحياة الباقية الآتية .

        والمؤمنُ في دنياه هذه حياتُه حياةُ عابر سبيل. والعابرُ سبيل لايرتاح في المعبر وخلالَ اجتياز السبيل ، وإنما يرتاح لدى وصول المنزل عندما يلقي عصا التسيار ويستقرّ في المكان الذي كان مقصدَه ؛ فمقصِدُه الآخرة التي فيها داره وقراره ، وفيها كلُّ ما يسرّ القلبَ ، ويُقِرُّ العين، ويُثلج الصدر، وفوق ذلك ؛ لأنه يجد فيها ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خَطَرَ على قلب بشر .

        فمواقفُ الامتحان والابتلاء التي يَمُرُّ بها بحكمة الله عزّ وجلّ ، لاتُضِيقه ولاتُفْقِده الصبرَ، وإنما تزيده راحةً وطمأنينةً وقناعةً بأنّ ربّه يريد به خيرًا ، ويَذْخَرُ له سعادةً أبديّة ، يبتهج بها ابتهاجًا لا تقدر على وصفه جميع الألسنة والأقلام مهما حَاوَلَتْ .

*  *  *

        إنّما أقول ذلك لأنّ هذه الدنيا جُعِلَتْ جنّةً للكافر الفاجر والمشرك الغادر الذي لايرجو من الله ما يرجوه من الشيطان الرجيم ، أما المؤمن المُوَحِّد فهو دائمًا مُعَرَّض للاختبار والابتلاء في هذه الدنيا ؛ لأنّ القوى الكافرة كلّها بأنواعها تصبّ عليه العداءَ وترميه عن قوس واحدة ولا تدعه يستجمّ ويتفرّغ لأداء ما هو مأمور به من ربّه في حريّة ، وإنما تنحت دائما أساليب حديثة للنيل منه وللحيلولة دونه ودون عمله بمُقْتَضَيَات دينه ومُتَطَلَّبَات عقيدته .

        أَلْقِ نظرةً على العالم ، تَرَ كيف أَنَّ ساحتَه كلَّها كأنّها مُمَهَّدَة كلَّ وقت لتكالب هؤلاء الأعداء على الإسلام وأهله ، وكأن أبناءَ العالَم ليس لهم عمل سوى نسج المؤامرة ضدَّ المسلمين والتخطيط للهجوم على الإسلام وأبنائه وبلادهم وكل شيء يتّصل بهم من المصالح والأغراض . إنّ أبناءَ الكفر عصيانُهم لله يَتَمَثَّلُ في الأغلب في محاربة المؤمنين والحيلولة دونهم ودون أيّ شكل للعمل بالإسلام ؛ فالحجاب يَكْرَهُوْنَه لحدِّ أنّهم يفصلون المُحَجَّبَاتِ عن المدارس والجامعات وعن الوظائف الحكوميّة ، ويُكَرِّهُونَه إلى عامّة المسلمين بوصفهم إيَّاه سببًا في تخلّفهم وتخلّف المرأة المسلمة عن ركب التقدم والحضارة ومُسَايَرَة العصر!!. والتصلّبُ في الدين محمودٌ في الإسلام ، ومطلوبٌ في الشريعة ، ومُطَالَبٌ به المسلمُ في كل من الكتاب والسنّة ونصوص الدين ؛ ولكنه «إرهاب» لدى الصهيونية العالميّة ، والمسيحيّة المُتَصَهْيِنة ، والوثنيّة بأنواعها غير المعدودة ؛ فهو – التصلّب في الدين الإسلاميّ – مُحَارَب في العالم كلّه ولاسيّما في العالمين العربي والإسلامي على جميع الأصعدة وبكل الأساليب التقليديّة وغير التقليديّة . الإساءةُ إلى أيّ إنسان مُحَرَّمةٌ دوليًّا ؛ ولكن الإساءَةَ إلى نبيّ الإسلام سيدنا ونبينا محمد عليه الصلاةُ والسلامُ ، حرّية في الرأي والتفكير؛ فهي غير قابلة للحظر والمؤاخذة لدى أوربّا وأمريكا القائدتين للعداء العالمي ضدّ الإسلام وأهله .

        العجيبُ العجابُ أن التصلُّب في الدين الإسلاميّ «إرهابٌ» مُحَارَبٌ من القوى الدوليّة ؛ ولكن التصلّب في اليهودية والصهيونية والمسيحية والوثنية والعلمانيّة بمعنى الإلحاد لايُعْتَبَرُ عندها «إرهابًا» مهما بَلَغَ حدَّ الإرهاب الواقعيّ والمعنى الصحيح الدقيق للكلمة . أليس هذا الموقف العالميّ يدلّ دلالةً واضحةً على أن الكفر بأنواعه وصوره الكثيرة غير المُحْصَاة مُعَسْكَرٌ واحد و الإسلام مُعَسْكَرٌ آخر مُحَاذٍ له ، والمعسكرُ الأوّلُ يحــارب المعسكرَ الثانيَ على كل جبهة وبكل عتاد ، كما ظَلَّ يحاربه منذ اليوم الأوّل .

        تعليمُ مجموعات أيّ ديانة باطلة لايؤدي إلى نشوء أيّ إرهاب فكريّ مُؤَدٍّ إلى الإرهاب العمليّ؛ ولكنّ تعليم القرآن والحديث وأمهات كتب الإسلام ومصادر الشريعة الإسلامية وحدَه يؤدّي إلى الإرهاب الفكريّ الناشئ عنه الإرهاب العمليّ ؛ فلابدّ – لدى القوى العالمية المقودة المُدَارَة اليوم بالصهيونية العالميّة والمسيحية المُتَصَهْيِنَة – من التغيير في منهاج التعليم الإسلامي في كل مكان بدءًا بالبلاد العربيّة ومرورًا بالبلاد الإسلامية وانتهاء بكل مدرسة وجامعة إسلامية في أي مكان في العالم !.

        إنّ صور محاربة الإسلام وأساليب الحيلولة دون المسلمين ودون عملهم بالإسلام ومنعهم منه وزرع العراقيل في طريقهم إليه جارٍ اليومَ على قدم وساق كما ظلّ يجرى منذ أن وُجِدَ الإسلام بل منذ أن وُجِدَ الحقُّ الذي ظلّ يلاحقه الباطلُ الذي مصيرُه الزهوقُ والزوالُ لامحالَة عندما يشاء الله عزّ وجلّ .

*  *  *

        صُوَرُ البلايا والمِحَن تتعدّد وتتجدّد ، وتزيد وتنقص ، حسبَ مايشاء الله ؛ والمؤمن مُعَرَّضٌ لها دائمًا حسبَ سنته ومشيئته وحكمته تعالى ؛ ليُمَحِّصَ الصادقين من الكاذبين ، وليُمَيِّز المخلصين من المرائين ، ويزيد المؤمنين إيمانًا ، ويرفعهم إحسانًا ، ويعلى درجاتهم ، ويقيل عثَراتِهم إن كانت . يقول الله تبارك :

        «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِيْنَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» (البقرة/214)

        «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِيْنَ جـٰـهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّـٰـبِرِيْنَ» (آل عمران/142) .

        «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِيْنَ جـٰـهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ الله وَلاَ رَسُولِه ولا الْمُؤْمِنِيْنَ وَلِيْجَةً» (التوبة/16) .

        ولقد شاءت حكمة  الله عزّ وجلّ أن تكون التضحيةُ هِيَ السبيلَ الوحيدَ لإحقاق الحقّ وإبطال الباطل في كثير من المواقف ، وأن تكون هي الطريق المُبَاشِرَ لاسترداد الحق المغصوب ، والعرض المسلوب ، ولأخذ الثأر وردّ الاعتبار من الظلمة الخَوَنَة الجَبَّارين والمُفْسِدين المستكبرين . إنّك ترى المؤمنين الصامدين هنا وهناك يُقَدِّمُون تضحيات جسيمة في سبيل استعادة كثير من الحقوق الإسلاميّة المُضَاعَة على أيدي الصهيانة والصليبيين وعملائهم وأذنابهم حتى في ديار الإسلام والعروبة . كما أنّ هناك قضايا إسلاميّة كانت لتُغلَق مِلَفَّاتُها لولا التضحيات المثالية التي يقوم بها الغيارى على دينهم وعقيدتهم رغم صنوف التعذيب والعقاب التي يتحملونها والتي لايمكن الصبر عليها لحظةً بدون الإيمان المُكَهْرِب للكيان ، والهمة السحريّة الشاحذة للإيمان ، جزاهم ربّنا الرحمن المُسْتَعَان .

        ولولا التضحياتُ التي يقوم بها الفتية الذين آمنوا بربّهم ، لما بقي طريقُ الإسلام مفتوحًا اليوم أمام الضعفاء أمثالنا لنعمل به سهلاً سائغًا لاعسيرًا شائكاً . إن عددًا لايُحْصَى من المؤمنين صامدون اليوم في كل مكان يدافعون عن الإسلام ، ويجعلون جسومهم كاسحات للألغام التي تُوضَع في طريق الإسلام هنا وهناك ؛ حتى يعود الطريق إلى العمل بالإسلام أصعبَ الطرق وأوعرها ، وحتى ينفضّ العوامّ من حول الإسلام بحجة أن العمل به شوك وقتاد .

*  *  *

        شاءت حكمةُ الله تعالى أن تكون التضحيةُ أكبرَ قيمة في حياة المؤمن ، يدافع بها عن الحق ، ويطالب بها بالحق ، ويستردّ بها الحق ، ويجعلها صخرةَ الوادي في سبيل الظلم يقع على الحق أو على صاحبه ، ويُحَوِّلها سلاحًا فتّاكاً في وجه الحاكم المُسْتَبِدّ أو الدكتاتور العُنْجُهِيّ المُتَعَجْرِف أو الفرد أو الجماعة ، المعجبة بقوتها العسكريّة ، وقدرتها الاقتصاديّة ، وتقدمها التكنولوجيّ ، أو ازدهارها الحضاريّ .

        ولولا جماعةُ الحقّ هذه المُسْتَمِيْتَة في سبيل الحق ، المُجَازِفَة بنفسها في سبيله ، والمُفَدِّية بها دونه ، لما بقي الحق ولا استقام على سوقه ، ولما انْتُزِع من الأيدي المغتصبة الغلاّبة ، ولما علا اسمُه وثـَبَتَ رسمُه ، ولَمَعَ وسمُه . إنّ التضحيةَ لا بدّ منها لإعادة كل حقّ إلى صاحبه ، وردّ كل أمر إلى نصابه ، ولإدالة الإسلام من كل جاهليّة ، وانتصار المظلوم من الظالم ، ولإعطاء كلّ قوس باريها ، وإتيان البيوت من أبوابها ، وليتجلّى لكل ذي عينين مهما كان بليهًا بليدًا لايتبيَّن الأمرَ ولا ضحى الغد : أنّ الله قد يُمْهِل ولكن لايُهْمِل، وأن الظلام لن يَطْغَى النورَ وأن الشرَّ لن يغلب الخيـرَ إلاّ لمدة قصيرة قَدَّرَها اللهُ للابتلاء والامتحان .

        التضحيةُ مبدأٌ ثابتٌ في حياة المؤمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا و رسولاً، وإن الأنبياء أكثر بني آدم بلاءً ، ثم الأمثل فالأمثل . ولقد ثبت لدى السلف ، ونطقت ألسنتهم ، وتَمَثَّلَتْ حياتُهم ، وشَهِدَتْ أسوتُهم أنّ البلايا للمجرمين عقوبات ، وللأبرار مُكَفِّرَات ، وللمُقَرَّبين درجات . بدون التضحية لن تتزكّى نفس ، ولا تتسامى روح ، ولن يكون بعضُ بني آدم موضع غبطة للملائكة ، وموقع حبّ إلهي ورضا ربّاني . التضحيةُ هي التي تُقَرِّر مصيرَ الأمم والأقوام ، وتؤكد للفرد خيارَ الحياة ، وللجماعة حقَّ الوصاية والقيادة ، وللخير صلاحيةَ البقاء والاستمرار ، وللشرّ حتميةَ الزوال والانهيار ، وللشيطان وزمرته دورَ السقوط والدمار .

        بالتضحية وحدَها يزكو الخير، ويزول الشرّ، ويَحِقّ الحق ، ويَبْطُلُ الباطل ، وتدوم كلُّ قيمة نبيلة ،وتُسْتَأصُلَ كل بذرة خبيثة ، مهما عَكَفَ عليها أصحابُها يَتَعَهَّدونها بالتسميد ، والسقي والريّ ، وإزالة الحشائش المُتَطَفِّلَة من حولها .

        من هنا كانتِ التضحيةُ أرفعَ القيم في حياة المؤمن ، وأسهلَ الوظائف التي يَتَوَلَّىٰ أداءَها . وكانت أثقلَ الأثقال وأصعبَ الأحمال على غيره، يموت دونها وتَزْهَق روحُه بمجرد تصوّرها .

        إنَّ مُنَاسَبَةَ عيد الأضحى تُذَكِّرُنا دائمًا بهذه التضحية العظيمة الجليلة ، وتدعونا لاستحضارها والتلبّس بها لدى كل حاجة شريفة تقتضيها .

 

( تحريرًا في الساعة 10 من صباح يوم السبت : 12/ذوالقعدة 1428هـ = 24/نوفمبر2007م )

نور عالم خليل الأميني

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1428هـ = ديسمبر 2007م يناير 2008م ، العـدد : 12 ، السنـة : 31.